المشهد الأول: قبل 26 عامًا!
العام 1996، قبل حقبة زمنية طويلة من الصواريخ التي تصعد وتعود من الفضاء، وقبل السيارات الكهربائية، وقبل الهايبرلوب وزراعة شرائح في أدمغة البشر، كان إيلون ماسك يعمل بمجال المحتوى.
في ذلك العام، بدأت شركة Zip2، الشركة التي أسسها إيلون ماسك مع شقيقه كيمبال، في مغازلة الصحف الشهيرة وإغرائهم بخدمة ستتيح لهم إنشاء دليل إلكتروني على الإنترنت للإعلانات المبوبة وقوائم العقارات وعروض السيارات، وكذلك الأحداث الترفيهية.
وقتها كان الإنترنت شيئًا غامضًا وجديدًا، وكانت الصحف الإخبارية ترغب في الوصول إلى هذا الشيء الجديد، حتى صحيفة نيويورك تايمز كانت ضمن الصحف التي استفادت من خدمات شركة Zip2. ثم ازدهرت أعمال الشركة، حتى أن إيلون وشقيقه قررا نقل مكتبها إلى مكان أكبر لاستيعاب الموظفين الجدد.
بالطبع، لم تكن شركة Zip2 عملاقًا تكنولوجيًا، والشاب إيلون ماسك عام 1996 كان رائد أعمال مجهول، لا يشبه رجل الأعمال الحالي وأغنى شخص على ظهر هذا الكوكب في عام 2022. لكن ربما كان وجه التشابه بينهما هو نفاد الصبر لتشكيل العالم حولهما، بأسرع وقت ممكن، بالطريقة التي يرونها مناسبة.
حينها أراد ماسك لشركة Zip2 تخطي شركات وسائل الإعلام والصحف والتوجه مباشرة للمستهلكين، لكن مجلس إدارة الشركة أوقفه عن هذا القرار. بينما الآن، إيلون ماسك يملك من الأموال ما يكفي لمحاولة توجيه الشركات المهووس بها، حتى إن كانت منصة من أكبر منصات الإعلام على الإنترنت، في الاتجاه الذي يرغب أن يذهب إليه!
المشهد الثاني: الرجل الحديدي وبداية قصة الحب مع تويتر!
الآن يجد إيلون ماسك نفسه في أعمال المحتوى من جديد، هذه المرة كأكبر مساهم في منصة تويتر، وعضوًا جديدًا في مجلس الإدارة. إذ اشترى إيلون ماسك حصة من الأسهم بلغت 9.2% في منصة تويتر، بقيمة 2.89 مليار دولار، وارتفع معها سعر سهم تويتر لأكثر من 27%، وبحلول نهاية يوم الإثنين الماضي، كان استثمار إيلون ماسك يساوي نحو 3.7 مليار دولار.
لم يقدم ماسك أي تفسيرٍ أو توضيح لشراء أسهم تويتر حتى الآن، لكن يبدو أن تلك الخطوة ترتبط بكلماته الأخيرة حول حرية التعبير، التي تحدث كثيرًا عن أهميتها للمجتمع. لكنه في النهاية، يقدّر السيطرة على الأشياء التي يهتم بها حقًا!
إيلون ماسك يحب تويتر، منصته المفضلة، وأداته المميزة للتواصل مباشرة مع قاعدة جماهيره ومشجعيه، ووسيلته الجديدة للـ "ترول" من أعدائه، ومنبره الأكبر للإعلان عن تحركاته القادمة وقرارات شركاته العملاقة.
انضم إيلون ماسك إلى تويتر في عام 2009. حينها، كان عصر Zip2 انقضى، فقد باع الشركة عام 1999 إلى شركة Compaq في صفقة بلغت 305 مليون دولار. انتقل بعدها بالطبع إلى تطوير السيارة الكهربائية الأكثر شهرة في السوق، والصاروخ الوحيد القادر حاليًا على إطلاق رواد الفضاء من الولايات المتحدة. وعلى نفس نهج عالم ماسك السينمائي Musk Cinematic Universe، ومثل الرجل الحديدي، فإن مشاريع إيلون الأخرى تميل إلى تحقيق ذات النزعة الدرامية، مرارًا وتكرارًا، بالرؤية المستقبلية العملاقة، والطموح الهائل، والسرعة الخارقة!
لذا، ما الذي قد يحدث الآن بعد أن أصبح تويتر جزءًا من عالم ماسك السينمائي؟
المشهد الثالث: تويتر في مأزق!
كل هذا الضجيج غطّى على المشاكل العامة في منصة تويتر؛ لم يمر على رحيل جاك دوروسي المفاجئ سوى 4 أشهر، لكن ربما هذا الرحيل المفاجئ لم يكن مفاجئًا إلى هذا الحد!
السبب وراء مغادرة دوروسي كان صندوق الاستثمار Elliott Management، الذي حصل على 4% من أسهم تويتر في 2020، وهو من فئة المستثمرين النشطين، أي من يحق لهم التدخل في قرارات الشركة. وبسبب ثبات وركود سعر سهم تويتر، وضعف النمو في عدد المستخدمين، بالإضافة إلى انقسام تركيز جاك دوروسي بين إدارة تويتر وشركته الأخرى Square، قرر صندوق الاستثمار الضغط على مجلس الإدارة والمطالبة باستبدال دوروسي من مقعد الرئيس.
بعد مرور عام، في 2021، غادر صندوق Elliott مجلس إدارة تويتر، ولكنه وضع شرطًا للمغادرة، وحدد أهدافًا عدوانية للشركة لم يكن دوروسي قادرًا على تحقيقها، مثل نمو قاعدة مستخدمي المنصة إلى 100 مليون شخص، وتسريع نمو الإيرادات، واكتساب حصة من سوق الإعلانات الرقمية. وعندما غادر دوروسي، كان يبدو أن الضغط لتحقيق هذه الشروط جزءًا من السبب!
الآن، تلك الأهداف أصبحت مسؤولية الرئيس التنفيذي الحالي، باراج أجراوال، وفي الأشهر القليلة الأولى من قيادته لم تظهر أي بوادر حول كيفية تحقيقه لها. تعمل الشركة فعلًا على تنويع إيراداتها خارج الإعلانات، عن طريق إضافة مشاريع وأدوات اشتراك لصناع المحتوى. لكنها فقدت أموالًا في الربع الأخير من العام الماضي، وبالكاد أضافت ستة ملايين مستخدم جدد.
كل ذلك يوضح أن تويتر لا يزال معرض للتحديات من المستثمرين النشطين، ممن قد يعملون على إجبار أجراوال على اتخاذ قرارات محددة، أو حتى يضغطوا على الشركة لتبيع نفسها لشركة أكبر.
وهنا يدخل الرجل الحديدي إلى المشهد، في دخول درامي!
المشهد الرابع: رؤية جديدة!
لم تتمتع شركة تويتر، التي تأسست عام 2006، بالإدارة الجيدة، ومغادرة جاك دوروسي من منصب الرئيس التنفيذي أمر طال انتظاره لفترة من الزمن. بينما خليفته باراج أجراوال، الذي يبلغ من العمر 37 عامًا، يأتي من خلفية هندسية وتقنية دون خبرة سابقة في إدارة الشركات. وهنا ربما يأتي دور إيلون ماسك، الذي قد يقدم نظرة ثاقبة حول كيفية تطوير وتمكين المواهب داخل تويتر.
يمكنه أن يساعد أيضًا في نمو المنصة، فهي المفضلة بالطبع للصحفيين والمشاهير والسياسيين والشخصيات المؤثرة، ولكنها ليست المنصة الاجتماعية المفضلة بالنسبة لكثير من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، ولم تتجاوز المنصة دورها الأساسي الذي بدأته كمكان للمناقشات والتحليل والترويج والتعبير عن النفس. ربما يرى محبي المنصة أنها لا تحتاج إلى تخطي ذلك الدور، ولكن يمكن أن يضع ماسك رؤية بديلة ويدخل في شراكات محتملة للمنصة من شأنها تحويلها لتصبح أكثر شعبيةً وتأثيرًا.
أدوات وخواص تويتر دائمًا ما تواجه مشاكل تقنية، على سبيل المثال أدوات البحث والمشاركة، وأخيرًا تعديل التغريدات، تطورت بوتيرة بطيئة ومؤلمة للغاية بالنسبة للمستخدمين. لم يخدم ذلك مستخدمي الشركة أو المستثمرين، وما زالت لم تكتشف الشركة بالكامل كيفية إدارة الإعلانات والتسويق على المنصة أيضًا. هنا ربما يجلب ماسك تفكيرًا ورؤية جديدة لتلك المشاكل.
ومع حبه واستثماراته الحالية في العملات الرقمية والمشفرة، ربما يعمل معهم على وضع رؤية مستقبلية لمنصة تواصل اجتماعي "لامركزية"، وهي رؤية تتوافق مع مؤسس المنصة جاك دوروسي، إذ يمكن للجميع رؤية الكود البرمجي للمنصة، ويختار المستخدم تخصيص ما يظهر له في الـ Feed الخاص به، ويحدد قواعده الخاصة بحرية التعبير، ويصبح كل شيء معتمد على التصويت واختيار الجماهير. تلك الرؤية تتحدى الطريقة التي تعمل بها منصات التواصل الاجتماعي حاليًا بالطبع، إذ تتحكم الشركات المالكة للمنصات في كل شيء، مثل فيسبوك.
إيلون ماسك ملك الرؤية والابتكار، ربما يساهم في جلب هذا السحر إلى تويتر، وهي الشركة التي ولدت من رحم الابتكار ولكنها لم تملك يومًا تلك الرؤية. وربما تكون أهم مساهماته، وأكثرها قيمة، هي تغيير كيفية عمل الشركة وثقافتها، ليجبرها على التحرك بوتيرة أسرع والتوجه نحو المخاطرة بجرأة أكبر. ربما سيكون الأمر مثيرًا وممتعًا للمشاهدة!
لكن هل يكتفي الرجل الحديدي بمجرد المساعدة؟
المشهد الخامس: خوف من السيطرة على تويتر!
قبل عامين، انضم مستثمر قوي آخر لمجلس إدارة تويتر، وهو إيجون دوربان من شركة Silver Lake، وهي شركة استثمار عالمية أمريكية تركز على الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا، بعد استثماره لمليار دولار.
عمل ماسك عن قرب مع دوربان منذ فترة، وكان ماسك أحد أعضاء مجلس إدارة شركة Endeavour، وهو مشروع آخر تدعمه شركة دوربان، لكنه ترك المنصب منذ ثلاثة أسابيع، إذ ترك مجلس إدارة هذه الشركة ليتفرغ للالتزامات الأخرى التي لم يحددها حينها، وهي علامة واضحة على أن محادثاته المتعلقة بالدخول إلى مجلس إدارة تويتر كانت جارية فعلًا منذ ذلك الوقت. حتى أن أجراوال نفسه أكد هذا الأمر عندما أعلن عن تعيين إيلون ماسك في مجلس الإدارة، وأنه كان في محادثات معه خلال الأسابيع الأخيرة.
تُصنف حصة ماسك من الأسهم في تويتر كحصة "سلبية"، مما يعني أنها أقل بقليل من نسبة 10% من الأسهم، لأن النسبة إن زادت يعد المساهم "نشطًا". عادةً لا يحاول المساهمون السلبيون فرض كثير من السيطرة على عملية صنع القرار داخل الشركة، لكن إيلون ماسك سيكون الاستثناء لهذه القاعدة.
عمومًا، المساهمون النشطون يأخذون حصتهم لواحد من ثلاثة أسباب: إما ليتمكنوا من تقسيم تلك الحصص في الشركة، أو لتعيين مدير تنفيذي أسير لرغباتهم، أو للحصول على الأرباح بأنفسهم وهذا أمر لن يحدث، ببساطة لأن تويتر لم يصل إلى تحقيق الأرباح بعد. بينما، حسب كثير من التوقعات، إيلون ماسك لا يتجه نحو أي من الأسباب الثلاثة، لكنه يرغب في ضمان مكان مميز على المنصة ليضع رؤيته الكبيرة كما يرغب.
من المفترض، كما هو الحال، أن يلعب مجلس الإدارة والمساهمين دورًا استشاريًا ويعطي ملاحظاته لمجمل خدمات الشركة، دون أن يحدد قرارات السياسة العامة الخاصة بها، بينما العمليات والقرارات اليومية تخضع للإدارة والموظفين داخل الشركة. على عكس بعض أعضاء مجلس إدارة تويتر الآخرين، لم يوقع إيلون ماسك اتفاقية تمنعه من التأثير على سياسات الشركة.
ربما يكون هذا البعد الأكثر إثارة للاهتمام للنظر في انضمام إيلون ماسك إلى مجلس الإدارة. من الواضح أن العلاقة بينه وبين أجراوال ودوروسي جيدة، على الأقل هذا ما يظهر من التغريدات العامة. ويبدو أن هذا ما دعا أجراوال إلى اللجوء لتعيين إيلون ماسك في مجلس الإدارة، بدلًا من البقاء كمستثمر سلبي.
يملك مجلس إدارة تويتر حاليًا 11 عضوًا، وسيصبح ماسك العضو رقم 12، على الأقل حتى يترك جاك دوروسي منصبه في المجلس الشهر القادم. إذا نظرنا إلى هذا الأمر من الخارج، فمن الممكن أن يكون وجود ماسك في مجلس الإدارة بمثابة نوع من حائط الصد ضد المستثمرين الآخرين.
في حين أن ماسك سيملك صوتًا واحدًا فحسب، من أصل 12 صوت، فإن وضعه كأكبر مساهم في المنصة، وأكثر أعضاء مجلس الإدارة تأثيرًا، بالإضافة لكونه يملك أكثر من 80 مليون متابع على حسابه، من المحتمل أن يعطيه قوة ناعمة تتجاوز سلطته التقليدية في مجلس الإدارة.
كما أن النسبة المئوية للأسهم التي امتلكها ماسك، تمثل أمرًا هامًا، لأن أي شخص يمتلك أكثر من 10% من أي فئة سندات مساهمة في رأس المال يعد "شخصًا من الداخل"، أو "Insider"، ويخضع لرقابة أكبر تحت لجنة الأوراق المالية والبورصة (SEC).
هناك عقبة مثيرة للاهتمام في هذا الاستثمار: لا يستطيع إيلون ماسك امتلاك أكثر من 14.9% من أسهم تويتر أثناء تواجده في مجلس الإدارة، حتى بعد 90 يومًا من مغادرته في عام 2024، وهي ما تُعرف باسم "اتفاقية التوقف التام" أو "standstill"، وهي تمنع المساهم من عملية الاستحواذ على الشركة. كأن إدارة تويتر تشتري لنفسها بعض الحماية من سيطرة ماسك، عبر منحه مقعدًا في مجلس الإدارة.
لكن الرجل الحديدي ليس كمعظم المساهمين، ويأتي بمشاكله الخاصة!
0 التعليقات :
إرسال تعليق